على سواحل بحر قزوين، على بعد أقل من 30 ميلاً من مكان اجتماع القادة العالميين والوزراء والمفاوضين في قمة المناخ “كوب 29” المنعقدة في باكو هذا الأسبوع، يتصاعد غاز دفيء قوي إلى الغلاف الجوي، إذ اكتشف جهاز استشعار مثبت على محطة الفضاء الدولية ستة أعمدة منفصلة من غاز الميثان بين أبريل ويونيو.
وبحسب منظمة “كربون مابر” غير الربحية ومقرها كاليفورنيا، التي حللت البيانات وشاركتها مع صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية، فإن هذه الانبعاثات كانت تتسرب من مواقع بترول وغاز في ضواحي عاصمة أذربيجان،
وتم اكتشاف خمسة أعمدة أخرى في مواقع أخرى داخل البلاد، بما في ذلك قرب محطة سانجاتشال العملاقة للبترول والغاز، وعلى الرغم من تفاوتها في الكثافة، كانت هذه الانبعاثات سامة ومليئة بمواد مسرطنة وغازات خطيرة أخرى إلى جانب الميثان.
الوضع مشابه في منشآت البترول والغاز حول العالم، وفقاً لنشطاء ومحللين يرصدون تلوث الميثان، وفي بعض الحالات، تكون التسريبات عرضية، بينما في حالات أخرى يتم تنفيس الغاز بشكل علني ومتعمد.
يعتبر الميثان المساهم الرئيس في تكوين الأوزون على مستوى سطح الأرض، وهو ملوث جوي ضار يتسبب في وفاة مليون شخص حول العالم سنوياً بسبب أمراض الجهاز التنفسي.
لكن التهديد الأكبر يكمن في تأثيره على المناخ، فرغم أن وجوده في الغلاف الجوي لا يدوم طويلاً مثل ثاني أكسيد الكربون، إلا أن قدرته على حبس الحرارة تفوق ثاني أكسيد الكربون بـ80 ضعفاً خلال فترة عشرين عاماً.
ويعتقد أن غاز الميثان مسئول عن حوالي 30% من الاحترار العالمي منذ الثورة الصناعية.
تأتي بعض انبعاثات الميثان من مصادر طبيعية مثل الأراضي الرطبة والغاز البركاني، لكن الجزء الأكبر منها ناتج عن الأنشطة البشرية، مثل الزراعة، ومخلفات المدافن، وصناعة الوقود الأحفوري.
هذه المشكلة كانت لفترة طويلة غير مرئية بسبب نقص الأدوات التي تكشفها وتقيسها، فالغاز لا رائحة له ولا لون، مما يجعله صعب التتبع.
وحتى وقت قريب، كانت عمليات مسح الميثان تجري غالباً على الأرض باستخدام أجهزة يدوية أو عبر التحليق الجوي لرصد تفاعله مع موجات الضوء.
يشير تحليل أجرته “فاينانشيال تايمز” إلى أن شركات الطاقة وجدت طرقاً عديدة لإخفاء حجم انبعاثاتها.
ويشير إيريك كورت، أستاذ علوم الفضاء والهندسة البيئية بجامعة ميشيجان إلى أن “صناعة البترول والغاز تبث ميثاناً أكثر بكثير مما ندرك”.
باعتبارها الدولة المضيفة الحالية لأهم قمة مناخية عالمية، تخطط أذربيجان، التي تحقق 90% من عائداتها من الصادرات من الوقود الأحفوري، لإعلان التزامها بمعالجة انبعاثات الميثان في النفايات العضوية.
كما ستعقد الولايات المتحدة والصين اجتماعاً جانبياً حول هذا الموضوع، فيما لم تتصدر انبعاثات قطاع البترول والغاز جدول أعمال هذا العام.
مع ذلك، وصلت انبعاثات قطاع الطاقة إلى أعلى مستوياتها عام 2023، مما آثار استياء بعض المحللين، الذين يرون أن معالجة انبعاثات الميثان هي من بين أسرع وأرخص الفرص المتاحة لمواجهة الاحترار العالمي حالياً.
يقول مانفريدي كالتاجيرون، رئيس مرصد الأمم المتحدة لانبعاثات الميثان، إن “تخفيضات الميثان في الأجل القصير تعد أسرع طريقة لتجنب أسوأ آثار تغير المناخ”، مشيراً إلى أن “القطاع ذو الإمكانية الأعلى للتخفيض هو صناعة البترول والغاز”.
في قمة “كوب 2021” السابقة، تم إطلاق التعهد العالمي للميثان، وهي مبادرة تدعمها أكثر من 150 دولة وتهدف إلى خفض الانبعاثات العالمية بنسبة 30% بحلول 2030، مقارنةً بمستويات 2020.
ومع ذلك، فإن الانبعاثات المجمعة من الميثان تواصل الارتفاع وفقاً لأحدث البيانات.
هناك الآن سباق لنشر أقمار صناعية جديدة وتقنيات تتبع أخرى، بالإضافة إلى إدخال قيود وقواعد جديدة.
في وقت سابق من هذا العام، اعتمد الاتحاد الأوروبي تشريعات شاملة للميثان تلزم شركات البترول والغاز والفحم برصد وتسرب وإصلاح تسريبات الميثان.
السؤال هو ما إذا كان بالإمكان اكتشاف هذه الانبعاثات بسرعة كافية لإقناع الحكومات والشركات باتخاذ إجراءات فعالة لإحداث فرق حقيقي.
يقول بول بليدسو، مستشار مناخي سابق في البيت الأبيض، “حتى نحصل على بيانات دقيقة حول الميثان على مستوى عالمي، سيكون من الصعب السيطرة على الانبعاثات.. نحن فقط في بداية تلك العملية”.
بالنسبة للعديد من الأشخاص، أصبحت انبعاثات الكربون مرادفة لأي شيء يتعلق بتغير المناخ.
لكن في الواقع، هناك ما يصل إلى سبعة غازات دفيئة مسؤولة عن تسخين الغلاف الجوي للأرض، ويأتي الميثان في المرتبة الثانية بعد ثاني أكسيد الكربون.
ومع ذلك، لم تتفق الدول إلا في “كوب 28” المنعقد في دبي العام الماضي على أن خططها المقبلة لمواجهة تغير المناخ يجب أن تشمل جميع غازات الاحتباس الحراري في جميع القطاعات، وليس فقط ثاني أكسيد الكربون.
في الوقت نفسه، ترتفع انبعاثات الميثان بمعدل قياسي، وفقاً لدراسة نُشرت في سبتمبر في مجلة “إيرث سيستم ساينس داتا”، حيث زادت بنسبة 20% تقريباً خلال العقدين الماضيين.
وبلغت تركيزات الغاز في الغلاف الجوي الآن أكثر من 2.6 مرة مما كانت عليه في فترة ما قبل الصناعة، وهو أعلى مستوى تم تسجيله منذ ما لا يقل عن 800 ألف عام.
يقول العلماء إن الميثان ناتج في الغالب عن النشاط البشري، لكن المصادر الطبيعية تساهم في تسريع الانبعاثات.
وفي ظل ارتفاع درجات الحرارة، ينبعث المزيد من الميثان من الأراضي الرطبة، وكذلك ذوبان التربة الصقيعية، مما يؤدي إلى “حلقة مفرغة” من الاحترار المتزايد.
ورغم أن انبعاثات الميثان من القطاع الزراعي تحظى بتغطية إعلامية أكبر، بما في ذلك الدعوات لتقليل استهلاك الألبان واللحوم، فإن قطاع الطاقة يمثل العامل البشري الأكثر أهمية بعد ذلك، إذ يُنتج حوالي ثلث جميع انبعاثات الميثان المرتبطة بالنشاط البشري.
يدخل الغاز إلى البيئة بطرق عدة، سواء عن طريق التنفيس في الغلاف الجوي من حقول البترول والغاز لأسباب تتعلق بالسلامة أو في حالات الطوارئ، أو عن طريق الحرق عبر الأنابيب أو المداخن الذي يحوله في الغالب إلى دخان وثاني أكسيد الكربون، وإذا كان الحرق غير فعال، يتم إطلاق الميثان النقي أيضاً.
كما أن هناك جزء كبير من الانبعاثات يحدث عن طريق الخطأ، سواء من تسريبات في الأنابيب والمعدات، أو لأن الشركات تدعي أن تكلفة احتجاز الغاز مرتفعة.
يعتبر التسرب من المنشآت القديمة والمعدات الصدئة مشكلة كبيرة، ليس فقط في الدول الفقيرة مثل إيران وأنجولا وفنزويلا، بل أيضاً لدى المنتجين الأغنياء مثل الولايات المتحدة.
تعهدت العديد من الشركات بخفض انبعاثات الميثان، بما في ذلك شركة “سوكار” وشركة النفط الحكومية في أذربيجان.
وفي مؤتمر المناخ “كوب 28” العام الماضي، دعمت 50 شركة مبادرة لخفض انبعاثات الميثان إلى نحو الصفر في مراحل الإنتاج الأولية للبترول والغاز، ووضع حد للحرق الروتيني بحلول عام 2030.
ومع ذلك، وصلت انبعاثات الميثان في الصناعة إلى مستوى قياسي جديد في عام 2019 وظلت قريبة من هذا المستوى منذ ذلك الحين، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية.
ومن المؤكد تقريباً أنه يتم التقليل من تقدير هذه الانبعاثات، حيث تقدر الوكالة أن انبعاثات الميثان العالمية من قطاع الطاقة تزيد بنحو 70% عن الكميات التي أبلغت عنها الدول.
ووفقاً لدراسة نُشرت في مجلة “نيتشر” في بداية هذا العام، استناداً إلى مليون قياس جوي لآبار وأنابيب ومرافق تخزين ونقل في ست مناطق في الولايات المتحدة، كانت الانبعاثات أعلى بنحو ثلاثة أضعاف من التقديرات التي قدمتها الحكومة الفيدرالية.
هذا الغاز له قيمة في السوق تقدر بحوالي مليار دولار، فيما تصل التكلفة المقدرة للمجتمع إلى 9.3 مليار دولار، وهو تقدير تقريبي للأضرار الناتجة عن انخفاض الإنتاجية الزراعية وصحة الإنسان والممتلكات.
يشهد حرق الميثان أيضاً اهتماماً كبيراً، حيث يقدر البنك الدولي بأن كمية الغاز التي تُحرق سنوياً، والتي تقدر بحوالي 148 مليار متر مكعب، يمكنها أن تمد منطقة أفريقيا جنوب الصحراء بالكهرباء بالطاقة لمدة عام إذا تم التقاطها.
وتشير البيانات إلى أن أكثر من نصف عمليات حرق الميثان المرتبطة بعشر شركات بترول كبرى تأتي من أصول لا تشغلها بشكل مباشر.
بالنسبة لـ”بي بي”، تجاوزت هذه النسبة 85%. (تقول “بي بي” إنها تبلغ عن جميع حالات الحرق من مواقع الإنتاج الأولية التي تديرها، بغض النظر عن حجم حصتها في الملكية).
كما ادعى النقاد أن بعض عمليات الحرق “الطارئة” كانت في الواقع تُنفذ بشكل روتيني، مما يفاقم من تعقيد البيانات.
يقول جوناثان بانكس، المدير العالمي للوقاية من تلوث الميثان في “كليف آير تاسك فورس”، “إن شركات البترول الدولية الكبرى بعيدة كل البعد عن تحقيق التخفيضات المطلوبة في عمليات حرق الميثان”.
يصر كبار المنتجين على أنهم يكثفون جهودهم، حيث ذكر تقرير صدر مؤخرًا عن مبادرة تجمع بين 12 شركة كبرى للبترول والغاز، أنهم خفضوا انبعاثات الميثان في مراحل الإنتاج الأولية بنسبة 55% في المواقع التي يديرونها بين عامي 2017 و2023، لكن هؤلاء المنتجين يمثلون جزءاً صغيراً فقط من الصناعة.
ويقول متحدث باسم “كوب 29” إن “أذربيجان تأخذ أزمة انبعاثات الميثان من أي مصدر، سواء كان البترول والغاز أو الزراعة أو النفايات، على محمل الجد وتتخذ خطوات للحد منها”.
مع تسارع الدول للوفاء باتفاق باريس لعام 2015، الذي يهدف إلى الحد من ارتفاع درجات الحرارة العالمية إلى أقل من درجتين مئويتين، ويفضل ألا يزيد على 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة.